غزوة بدر الكبرى: تبقى مدرسة الأجيال على مر القرون

Dr. MAH Azhari
غزوة بدر! غزوة تصب في نياط قلوبنا زلال الاعتزاز والطمأنينة! غزوة تأخذ بمجامع قلوبنا وترفعها من حضيض اليأس والتعاسة إلى آفاق النصر والافتخار! أعظم لحظة شهدت لانتصار الحق على الباطل ولاعتلاء كلمة الله على سائر الكلم. بعد مضي أربعة عشر قرنا، نتذاكر اليوم حماسة أهل بدر وقوتهم الإيمانية، ونقرأ تلك الغزوة التي تبقى على مر القرون مدرسة حديثة للمسلمين في كل عصر ومصر. فما هي التعاليم التي تدرّسنا بدر وأهلها؟ وما هي أهميتها في تاريخ الإسلام أكثر من أي غزوة أخرى؟ وما هي الأضواء التي نقتبس منها ونستنير بها طريق حياتنا؟

الصبر على أذى الأعداء

ليست غزوة بدر حدثا استمر يومين أو ثلاثة أيام، بل كانت نهاية صبر مر عليه ما يفوق عشر سنوات منذ صدر الإسلام. فلا بد أن نقرأ غزوة بدر من بدايتها التي تبدأ من أول ظهور الإسلام. ما كان أحد من المسلمين في صدر الإسلام إلا وقد كابد أذية قريش بأنواعها. فهذه سمية -رضي الله عنها- لقيت أصنافاً من العذاب، لترجع عن دينها فصبرت ولم ترجع. ثم طعنها أبو جهل بحربة في قُبُلِها حتى ماتت وأصبحت أول شهيد في الإسلام، وكانت حينها عجوزًا ضعيفة. وهذا زوجها ياسر بن عامر وابنه عمار أيضاً عُذِّبا في سبيل الله. ذات يوم، كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يمر بعَمَّار وأُمه وبأَبيه، وهم يعذَّبون بالأَبطح في رَمْضاء مكة، فيقول: «صَبْرًا آلَ يَاسِرٍ، مَوْعِدُكُمْ الْجَنَّةُ»(أسد الغابة ٤٣٣/٥). وهذا خباب رضي الله عنه، أُوقِدت النار وسُحب عليها فما أطفأها إلا ودك ظهره، كما شهد بذلك. وقال عمر بدهشة أخذته، حين رأى ظهره بعد سنوات: "ما رأيت كاليوم ظهر رجل" [حلية الأولياء لأبي نعيم ج1 ص:144]. وكان بلال بن رباح رضي الله عنه ممن واجه أشد أنواع البلاء من أجل إسلامه، حتى أعتقه أبو بكر الصديق رضي الله عنه من أمية بن خلف.
وما كان أذى المشركين ينال المستضعفين فقط، بل كان كثير من عظماء مكة واجهوا مصائب عظيمة ومتاعب جسيمة بعد أن اعتنقوا الإسلام. فهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه كان غنيا في قومه ومحبوبا بينهم لصدقه ومروءته وإحسانه، وكان أعلمهم بأنسابهم وتاريخهم كما كان معتبرا من رؤسائهم وأهل مشاورتهم، وكان من مهامه تولي الديات والمغارم. إلا أنه لما قام يخطب داعيا إلى الله ثار المشركون عليه فضربوه ضربا شديدا، ووطؤوه، ودنا منه الفاسق عتبة بن ربيعة فجعل يضربه بنعلين مخصوفتين ويحرفهما لوجهه، ووثب على بطنه حتى ما يعرف وجهه من أنفه. ولا يكاد يحصى ما واجه المسلمون من أذى قريش حين أسلموا. وإنما حدثت الهجرة إلى حبشة ثم إلى المدينة المنورة بعد أن حلّت أذيتهم مبلغا لا يتحمله أحد، وبلغ السيل الزبى. فتركوا أموالهم وهاجروا مسقط رأسهم من أجل الإسلام. فانتهب المشركون أموالهم، وحاولوا مواصلة الأذى في المدينة المنورة أيضاً. وإنما كان يأمرهم النبي ﷺ بالصبر طوال تلك الحقبات من الزمن، وما زال يبشرهم بنعيم الجنان ويرغبهم فيه. فتُدرّسنا غزوة بدر أن نصبر على أذى كل عدو صائل إذا كنا مستضعفين في الأرض، حتى يأتي أمر الله. وأن لا نتطرف على أحد وأن نبقى سفراء الأمن والسلام، مهما اشتدت الأذية.

قوة الإيمان والتوكل

حقا وحقيقة، ما خرج المسلمون إلى بدر مع النبي ﷺ قصدا لحرب، بل خرجوا لاستدراك أموالهم من عير أبي سفيان. إلا أنهم اضطروا إلى أن يواجهوا عدوهم. وكانوا شرذمة قليلة إلا أنهم ثبتوا مع النبي ﷺ وآمنوا بما وعد الله ورسوله من ظفر وجنة، وتوكلوا على الله أعظم توكل شهده التاريخ. فلم يكن معهم من القوة إلا إيمانهم الذي لا يتزعزع كيفما عصفت به العواصف، وتوكلُهم جميعَ أمورهم على الله، الذي أيقنوا بأن لا حول ولا قوة إلا به. قال تعالى: «وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ * بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ» [آل عمران: 123-126]. فقد نصّ القرآن على أن صبرهم وثباتهم مع النبي ﷺ مع الإيمان والتقوى هي التي أنجزت فوزا عظيما.
فتدرسنا غزوة بدر أن نتقوّى بالإيمان والتقوى والتوكل أمام كل مضرة ومشقة نواجهها من أجل الإسلام، إذن نقدر على أن لا نبالي بتضحية النفس والمال في سبيل الله تعالى في علاه كما كان ذلك شأن البدريين. وتدرّسنا بدر أيضا أن نعيش حياة المسلمين حقا، حتى تنهال علينا نفحات نصر الله وفتحه في كل ملمة ألمّت بنا، ويهابنا الأعداء هيبة تسدهم عن اضطهادنا كما قال تعالى: «وَلَا تَهِنُوا۟ وَلَا تَحۡزَنُوا۟ وَأَنتُمُ ٱلۡأَعۡلَوۡنَ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِینَ» [آل عمران ١٣٩].
ولا ريب، إن الأمة المسلمة اليوم أشد حاجة إلى أن تكون أمة مؤمنة حقا، حتى تنهض من حضيض الذلة إلى أفق الاعتزاز، ويا حبذا لو حصل ذلك!

فضائل أهل بدر

"ما مزية أهل بدر على سائر المجاهدين؟ ولم فضّلهم الله على بقية الغزاة في سبيل الله؟" نسمع اليوم هذا السؤال من بعض الإخوة. ولا يخفى جوابه على من فهم أن غزوة بدر كانت نهاية صبر مر عليه المسلمون ما يفوق عشر سنوات منذ ظهور الإسلام، وأنها، أكثر من حرب أو معركة، تتسم بأبعاد كثيرة ترتبط بها حياتنا. فأولائك هم الذين ثبتوا مع النبي ﷺ أمام العدو العملاق في رأي العين، ثباتا لا يساويه ثبات أحد. هم الذين نصروا النبي ﷺ بثاتهم في أشد الخطوب من السيرة النبوية. هم الذين لو لم يجاهدوا مع النبي ﷺ حق جهادهم، لم يبق على وجه الأرض عابد لله، كما دعى النبي ﷺ: "اللهُمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ ، لَا تُعْبَدْ فِي الْأَرْضِ" (رواه مسلم). فقد فضلهم الله بفضائل لن تجتمع في أحد غيرهم. ومن أعظمها أنهم أهل الفردوس الأعلى بلا نزاع. ذات يوم أتتْ النَّبِيَّ ﷺ أُمُّ حَارِثَةَ بْنِ سُرَاقَةَ فَقَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ: أَلَا تُحَدِّثُنِي عَنْ حَارِثَةَ؟ وَكَانَ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ، أَصَابَهُ سَهْمٌ غَرْبٌ، فَإِنْ كَانَ فِي الْجَنَّةِ صَبَرْتُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ اجْتَهَدْتُ عَلَيْهِ فِي الْبُكَاءِ، قَالَ: "يَا أُمَّ حَارِثَةَ! إِنَّهَا جِنَانٌ فِي الْجَنَّةِ، وَإِنَّ ابْنَكِ أَصَابَ الْفِرْدَوْسَ الْأَعْلَى". قال ابن كثير: "وفي هذا تنبيه عظيم على فضل أهل بدر، فإن هذا لم يكن في بحبحة القتال، ولا في حومة الوغى، بل كان من النظارة من بعيد، وإنما أصابه سهم غرب وهو يشرب من الحوض، ومع هذا أصاب بهذا الموقف الفردوس التي هي أعلى الجنان، وأوسط الجنة، ومنه تفجر أنهار الجنة، التي أمر الشارع أمته إذا سألوا الله الجنة أن يسألوه إياها، فإذا كان هذا حال هذا، فما ظنك بمن كان واقفاً في نحر العدو وعدوهم على ثلاثة أضعافهم عدداً وعُدداً" [البداية والنهاية لابن كثير 5/258]. ومن فضائلهم أن الله غفر لهم الذنوب جميعاً. فقد قال النبي صلى اللهُ عليه وسلم: "إنَّ اللَّهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ". قال ابن حجر: "وهي بشارة عظيمة لم تقع لغيرهم" (فتح الباري 7/305). وقد تشرف الملائكة أيضاً بنزولهم في بدر. فقد روى البخاري أنه جَاءَ جِبْرِيلُ إِلَى النَّبِيِّ صلى اللهُ عليه وسلم فَقَالَ: "مَا تَعُدُّونَ أَهْلَ بَدْرٍ فِيكُمْ؟" قَالَ: مِنْ أَفْضَلِ الْمُسْلِمِينَ، - أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا - قَالَ: "وَكَذَلِكَ مَنْ شَهِدَ بَدْرًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ". تذكرا وتذكيرا بعظيم مكانة بدر في تاريخ الإسلام، واعتبارا بجزيل قدر البدريين، يقوم جامع الفتوح، المسجد الهندي الكبير، بعقد أكبر مؤتمر بالهند في ذكرى غزوة بدر الكبرى وأهلها، على رئاسة مفتي الديار الهندية فضيلة الشيخ أبي بكر أحمد. و'مؤتمر غزوة بدر الكبرى' من أعظم البرامج التي يعقدها جامع الفتوح، والتي يتجمع فيها آلاف المؤمنين من شتى أنحاء جمهورية الهند، بمن فيهم علماءها وأمراءها. وفي إطار التبادل الثقافي، تم استقبال هدايا من بلدان مختلفة، من بينها ٣١٣ شاة، تعتبر رمزًا للتضامن والتقدير بين والمجتمعات. ويقام مع برامج الذكرى الإفطارُ الكبير، والذي يتميز بتضامن المسلمين وتعاون بعضهم مع بعض. ولقد أصبح جامع الفتوح خلال فترة وجيزة مأوى المسلمين الهنود ومقرهم الديني والروحاني وبوابة الهند إلى الدول العالمية. وبخصوص هذه المناسبة، يدعو جامع الفتوح الأمة الإسلامية في كافة أنحاء العالم إلى أن يعتبروا بتعاليم غزوة بدر وأن يسترجعوا قوتهم الإيمانية لمقاساة جميع الأوضاع الداهية التي يواجهونها في هذه الأيام الصعبة وفيما يستقبل.
© 2024 Dr. MAH Azhari
⚡ziqx.cc